من تجارب مختبر لاليش النمساوي

 

أرض الرماد والاغاني


تأسس هذا المختبر عام 1998 في العاصمة النمساوية”فيينا “ بفعل بحث تجريبي قام به الفنانان”شمال عمر “ و”نيكار حسيب “ حول”مفهوم ثقافة الجسد “ وبعدها دخلا غمار بحث مغاير حول تقنيات تسمى”
PERFORMATIVE CULTURE “ تنحو نحو صياغة اسئلة جديدة حول اشكاليات خطاب الجسد في الزمكان وللتعريف نقول: ان شمال ونيكار كانا قد درسا المسرح في اكاديمية الفنون الجميلة ببغداد في الثمانينيات من القرن الماضي وتخرجا عام 1988 وتزوجا بعد ذلك واثناء حملة الانفال سيئة الصيت هربا من كردستان العراق”السليمانية “ في ظروف حرجة وصعبة للتخلص من القتل الجماعي الذي طال المجتمع الكردي في العراق واستقر في النمسا ومنذ ذلك الحين وهم في بحث دائم حول تقنيات العرض المسرحي شكلا  واداء  وخطابا  جماليا .

وقد شاركا في مهرجان القاهرة التجريبي في دورته السادسة عشرة ممثلين للنمسا في المهرجان مع ممثلتين احداهما نمساوية والاخرى سنغافورية من اصل صيني وقدما عرضا  بعنوان ”ارض الرماد والاغاني“ على باحة بيت الهراوي“ خلف جامع الازهر وهو من البيوت المصرية القديمة التي استغلتها وزارة الثقافة المصرية في تقديم اشكال عديدة من العروض المسرحية الموسيقية والندوات الثقافية كما انه مركزاً لبيت العود الذي يقوده الفنان العراقي نصير شمه.

تمكن ”مختبر لاليش“ عام 2000من اقامة مركزه الثابت في فينا بفعل مثابرة شمال ونيكار اللذين قاما بتأسيسه واللذين سعيا الى ايجاد ”معرفة الصوت“ عبر ”المحتفل“ و”المركب المشارك بضم الميم“ و”العمل البروفومايتفي“ بدلا  من المفاهيم السائدة ”الممثل“ و”المخرج“ و”العرض المسرحي“.

ان المسرح في مفهوم مختبر لا ليش المسرحي هو نشاط انساني ابداعي، وهو مكان للتحول ، بمعنى ان عملية التمويل تحدث ائما  على مستويات عدة:

1. من خلال عملية التمثيل، يقوم الممثل بتمثيل كائنات واشياء اخرى، ولهذا اتجه المختبر الى التفكيك وعملية التحول هذه.

2. تحولا  اخر من خلال افتراض دلالات فنية اخرى خارجة من الفعل الجسدي، اي ان الكائن الفاعل يصبح جزءا  من العملية الابداعية مثل ما حدث ويحدث في الان.

3. واهم تحول، هو ذلك التحول الذي توصل اليه مختبر لاليش المسرحي، والذي يمارسه الكائن الحي الفاعل في الفضاءات بوصفه فعلا  اراديا  من اجل ايجاد اقصى مستوى للطاقة والوصول من خلاله من ”الكيفية“ الى ”النوعية“، وبمعنى اخر ان يتحول الكائن الحي الى ذات كاملة. ومن هنا فان ذلك الكائن الفاعل ينهض كنقيض وبديل كامل لفعل الممثل، لانه لا يمثل اي كائن ولا يعرض اي شيء خارج عن ذاته، اي انه يحقق فعله الانساني بوصفه انسان حاضر في الزمكان، ومن هنا تنتفي عملية”النصية “ و”العملية التمثيلية “.

ويعتقد هذانا الفنانان ان تاريخ المسرح وخبراته المنجزة عبر تاريخه الطويل قد اوصلته الى القناعة الكاملة بامكانية تخلي المسرح عن كل شيء لا يحتاجه بالضرورة لتحقيق الفعل المسرحي فيقذف به خارجا ، عدا الجسد!! ويتساءلان لماذا؟

ويجيبان: لان هذا الجسد هو الانسان، ولهذا منهم يقولان: في مختبرنا نسمي هذه الخبرة المنجزة بـ”عبارة الجسد “ وعبارة الجسد في سياقها واشكالها المختلفة، خصوصا  في الاونة الاخيرة هي احدى اهم الينابيع العضوية للانسان، الا وهو الصوت.

وهم في هذا يرون ان الحركة ليست وحدها الحامل الوحيد لتاريخ الشخص، او انها المعبر الوحيد عن الفعل الانساني كما يراها مسرح اليوم الدافع للعمل الجسدي ان الصوت عندهم لا يقصد به ما جرت عليه الاستخدامات التقنية المختلفة في المسرح الحواري والاديرا او المسرح الفضائي الموسيقي ولا حتى لتجارب المسرحية الجديدة التي يستخدم فيها الصوت عبر المكبرات الصوتية ولا التقنيات الجديدة الاخرى.

ان الصوت في مختبر لا ليش وكذلك الفناء له مفهوما  آخر، لا يقصد به تعميق الفعل الدرامي ولا يميل الى مونتاج المشاهد او ينمو نحو التغريب، بل يحاول المختبر تجاوز كل هذه الاستخدامات والاشكال القديمة والحاضرة ايضا .

انهم يدخلون في مغامرة صوتية جديدة اطلقوا عليها تسمية ”الصوت ينبوعا “ فهو ينبوعا  ودافعا  ومحركا للجسد، صحيح ان الحدث الفيزيقي يخلق الايقاع والحدث، لكن الفناء هنا ليس مجرد غناء، بل جعل الفناء”مرئيا  “، والفناء عندهم لا يفسر الحدث، بل هو الحدث نفسه، وهو لا يخلق الاجواء، انما هو الاجواء ذاتها، وعليه فعندهم”الصوت منبعا  “ هو محاولة اخرى للبحث الجسدي، ولكن عبر الصوت. يقول مؤسسا المختبر”شمال ونيكار “: اننا عبر هذه الطريقة نحاول الوصول الى اسرار تلك الافعلى الملتوية، شبه النائمة في اعماقنا، اي في اعماق جسدنا، اذا هي تحركت لنتحرك نحن ايضا ، اذا تنفست، نتنفس نحنايضا ، اذا هي فتحت عينها نتوجه الى كل الاتجاهات، واذا هي فتحت فمها، تصبر عن آلامنا واشواقنا وهي ايضا  بمثابة صورة حية لقوة الحياة ويختتم شمال عمر قوله بالقول:”انا اتحدث عن الصوت كأني اتحدث عن كل شيء حي، نعم، هو كائن حي، هو انا، هو نحن، والسؤال الرئيسي: هل نستطيع ان نخلق من هذه الطريقة لغة تواصل؟. ويجيب على ذلك بالقول:”ان ما تقدمه ليس عرضاً مسرحياً بمعناه المسرحي المألوف، بل نسميه”الالتقاء البرفورماتيفي وهو ليس الحد النهائي والمتكامل لهذا الحدث، بل هو الادوات للبحث التجريبي المتواصل “.

ومن هنا ادخل الى مناقشة هذا العرض الذي اثار الكثير من الاسئلة حول الظاهرة المسرحية ما بعد الحداثة وهو بحق قد ساهم في الجدل القائم حول المفاهيم الاساسية التي قام عليها مهرجان القاهرة للمسرح التجريبي بموضوعته”مسرح الحداثة وما بعد الحداثة “.

ينطوي هذا العرض على استثمار منطقة جديدة ادائيا  يصعب احيانا تجنيسها في خضم الانفلات الاصطلاحي المتصل بالمفاهيم الحداثوية السائدة هذه الايام والتي طالها التعقيد حينا  والتبسيط الى حد السذاجة حينا آخر.

فنحن ازاء بنية استمدت صيرورتها من هاجس جمالي طبع توجه المشتغلين بالمسرح في كل انحاء العالم، هو البحث عن صيغ جديدة اكتشاف مناطق جديدة تعتمد تفجير طاقات الانسان التعبيرية الى اقصى درجاتها على وفق منطق المغايرة للسائد والمألوف والذي اسس مقاومة جمالية للمسرح بنتيجة التحدي الشرس الذي فرضته وسائل الاتصال الحديثة، وهو ما يؤكد ان سر بقاء المسرح متوهجاً في عصر التكنولوجيا وثورة الاتصال لا يمكن في تفرده في اللقاء الفيزياوي المباشر بين الباث والمستقبل حسب، انما في قدرته على التمظهر باشكال وصيغ جديدة مغايرة للواقع والمتصور والمألوف على نحو مختلف عن الفنون الدرامية التي يتصور البعض انها تستعيض بها عنه.وبذلك استطاعت المخيلة المسرحية ان ان تجد لها دوما موقعا لا يمكن زحزحته، وما هو قابل للاندثار هو ذلك المستقر الثابت والميت الذي اصبحت معه قدرته على مسايرة المتغيرات محكوم عليها بالانزياح.

وعليه فان عرض مختبر لاليش الذي صدم مشاهده بتلك المغايرة انما قام على بنية صوتية مطلقة، تشكلت انساقها من نغمات مختلفة تحكمها مرجعيات اجتماعية وانثولوجية متعددة، دون ان تربطها ”نصية“ مسبقة وواضحة بحيث اختلط فيها الارتجال آنيا مع الارسالية المقصودة لتتابع الفناء حيناً وللنغمات ومساراتها اللحنية حينا آخر.

ولم تكمن صياغة منظومتها الصوتية المنضبطة علائقيا عن طريق الاشتباك والاحلال فيما بينها، انما كانت تتم عن طريق اكتشاف المشترك الدلالي للنغمات المختلفة وقدرة التحول من نغم الى آخر، عبر انساق صوتية تنوعت بين البدائية والوحشية والفولكلورية التي تنتمي الى ثقافات متعددة في قالب يغلب عليه الاوبرالي كما يتصور للوهلة الاولى، وفي الحقيقة ان تقنينا متسربا كهذا لا يتلمس بدقة البحث الخاص لمختبر لاليش في صهر الانساق الصوتية تلك في ارسالية نغمية قصدية متجانسة حينا ومتنافرة حينا آخر ولكن داخل بنية مترابطة ومنفتحة على القراءة والتي زحزحت قناعات ترسخت في السنوات الاخيرة والمتعلقة بهيمنة الصورة واغفال الحقل السمعي بوصفه رديئا ثانويا لها، في الوقت الذي استطاعت مجموعة لا ليش من تأسيس منظومة سمعية اكثر انفتاحا وغزارة في اشاعة طقسيتها والتي تتيح مجالا اوسع للصورة الذهنية المودعة في الذهن الانساني والتي هي اكثر شمولية وحرية في اتاحة الفرصة لتخيل المتخيل ”المسموع والمرئي“ في ان يجنح بغزارة تأويلية في تأطير الرسائل الجمالية المستقبلة ”بفتح الباء“ على وفق مرجعيات التلقي الاجتماعية والثقافية. ان الرسالية الصوتية الانسانية تعتمد اساسا على علامتين هما: اللسانية وغير اللسانية، فالعلامة اللسانية هي العلامة اللغوية التي هي مادة النصوص الادبية، اما غير اللسانية تعني: النغمة، الوقف، الصمت البليغ، الهمهمات، الحشرجات وجميع الاصوات فوق النقطعية والتي تصبح دالة في سياقها.

والمناهج الحديثة عموما تدعو الى استثمار فعالية اشتغال العلامات غير اللسانية والتي يصبح معها انفتاح القدرة التأويلية للباث والمستقبل اكثر حيوية من قسرية مرجعيات العلامة اللسانية المغلقة في اكثر الاحيان. هو الامر الذي اشتغل عليه مختبر لا ليش بجدة ملحوظة، عندما اقتحموا منطقة مغايرة جديدة تبدو للبعض انها تتسم بالغرابة، لكنها اكثر التصاقا باعادة تركيب المشهد المسرحجي على وفق منطلق تهم البحثية، فاذا كانت العلامة المسرحية لا تبدو على الدوام مستقلة انما تركيبية.

فان تنويعاتهم العلامية صوتيا قد ارتبطت بعلاقات علامية اخرى في فضاء العرض الذي تم في باحة ذلك البيت التراثي على الرغم من خلو المكان من اية ادوات او اي بناء منظري.

فقد ابتدأ العرض من لحظة دخول المشاهدين الذين ارشدوا الى اماكن جلوسهم المحيطة بساحة العمل من قبل الممثلين انفسهم وكأنهم في حفلة استقبال، وبهذا اكد الفريق روح المشاركة والغاء الحاجز الطبيعي بين الباث والمتلقي، وفي اطار عملية الجلوس كان ”شمال ونيكار“ سيسرقون لحظة لينتزعوا بنغمات ذات اصوات مبهمة مع حركة جسدا يرقص بموضعية ثابتة مؤكدين روح المحتفل، لا الممثل.

وحين استتب وضع الجلوس التام للمشاهدين توزع المحتفلون ”الممثلون“ على الساحة بشكل ”معين“ وهم ثلاث نساء ”نيكار حسيب، كابريل بلونور ”النمسا“، ياب سان سان ”سنغافورة““ و”شمال عمر“ بوصفه المركب المشارك ”اي المخرج“ وكانوا جميعا يرتدون ملابس سوداء، وابتدأت لحظة العرض الاولى بعد صمت قصير حينما ارتدت النساء الثلاثة العباءة العراقية السوداء المعروفة ووضعها على الرأس كما تفعل المرأة العراقية، ثم انطلقت من افواه المحتفلات وبتوقيت واحد ”الهلهولة الشعبية العراقية“ وكأنها انطلاق طقس ارتبطت علاماته المتنوعة بمكان ندمان بعينه.

ما بين علاقة الفرح وعلامة الحزن ابتدأ النسيج الانساني يبسط ظلاله على ساحة العرض، حينما اخذ ”المركب المشارك شمال عمر“ يدفع بمحتفلاته الى خوض خمار بحثه الصوتي الباعث لحركة اجسادهن من خلال بنيات صوتية ونغمية بتقنية كان .... (القسم الثانی ینشر قریبا)

د. میمون الخالدی
ممثل و باحث مسرحی عراقی، أستاذ فی الکلیة الفنون الجمیلة فی بغداد.
عن العرض "أرض الرماد و الأغانی" لمختبر لالیش المسرحی فی مهرجان القاهرة لمسرح التجریبی فی دورته‌ السادسة العشرة.
 2004