بداية الحديث

 

 

حملت عطر جبالنا عبر النمسا الى القاهرة.!

 

في مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريببي السابع عشر 20-30 أيلول 2005 تجاوزت العروض المسرحية فيه الـ(150) عرضا.. وكانت تلك العروض كالعادة تقدم موزعة على كل مسارح القاهرة.. حيث تبلغ عشرة عروض يوميا.. العروض بعضها يدخل في المباراة –أي المسابقة- والبعض الآخر يقدم للجمهور فقط مع توفر مجال لمناقشة كل عرض من قبل النقاد والمشاهدين. اضافة الى الندوة الفكرية المواكبة لتلك العروض

 المشاركة في المهرجان عادة.. وفي هذا المهرجان بالذات يكاد يضم مختلف دول العالم.. ممثلة بفرقها المسرحية، التي تأتي بتجاربها المتميزة، والتي يفترض ان تكون هكذا.. اعني هناك خاصية (التجريب) فيها لتتلاءم فعلا مع هدف المهرجان وتبنيه لهذا الجانب في المسرح..

 لست في معرض تعداد العروض التي قدمت أو تقويمها.. فقد شاركت عضوا في هيئة التحكيم وحددنا الاعمال التي استأهلت بجدارة جوائز المهرجان كلا حسبما يستحق ليكون المسرح العراقي واحدا من المسارح التي نالت جائزة (السينوغرافيا) بجدارة عن مسرحية (حرق البنفسج) تقديم الفرقة القومية واخراج حيدر منعثر.

 لكن الذي أثارنا بفرح وبأسف في آن واحد.. ان التقي بشابة وشاب.. من الفنانين العراقيين.. ومن كردستان العراق.. لم اكن ادري اول الامر اين هم خلال زمن طويل لم التق بهما..

 (نيكار حسيب) شابة كانت يوم عرفتها في كلية الفنون ببغداد.. وما زالت شابة.. و(شمال عمر) ذاك الشاب الهادئ الذي تقرأ في عينيه الذكاء اللامع يبحث في الافق عن جديد ليقتنصه ويلعب فيه لعب المحترف المبدع لفضاء جديد يعبر فيه بلغة الجسد والصوت الساحر لزميلته وزوجته –الخلابة- نيكار..

 الذي عرفته وهزني.. فرحا واسفا –كما اشرف- ان (شمال) و(نيكار) ومعهما فتاة نمساويه (أليس مورتج) سيقدمان واحدا من عروض المهرجان يتميز بخصوصية تبدو غريبة أول الامر لكنها وبعد المشاهدة تضعك برصانة وعمق في مفهوم مبدع لتجربة تجمع بين لغة الجسد وذاكرة الصوت وقد اسماه مخرجه والمساهم فيه (شمال عمر) –بداية الحديث ليقدمه عن (مختبر لاليش لعمل المسرح) النمساوي..

 اذا هذان الفنانان –فنان وفنانة- يحملان عطر الجبل ولون السهل الاخضر.. القادمين من هناك.. تقدمهم –النمسا- أو هما يقدمان –النمسا- ومسرحها.. بكلمة ادق.. هذا هو جانب الاسف.. الذي زال حين جلست اتمتع واتأمل عجبة واعتزازا تلك التجربة الحلوة والعذبه ولتكون معهما فتاة من النمسا –تكمل الصورة- احيانا وتضيف الى الصوت صدى من قريب أو بعيد.

 يقول الدكتور عقيل –بعد ان شاهد العرض- حين اعيد للمرة الثانية وبحماس من مشاهدين لم يستطيعوا من الحضور في العرض الاول:

 (عراقيان وممثلة نمساوية قدموا عرضا في (مركز الابداع الفني) فيه الاوبرا، وفيه من الحساسية الجمالية، وروح الشعر والغنائية العالية ما يجعل لهذه التجربة (المسرحية المنفردة، ان تحظى بهذا التلقي الرصين، تجربة تم حبك خيوطها في مختبر لاليش) لعمل المسرح باسم النمسا.

 ان عرض (بداية الحديث) يستأهل حديثا بلا نهاية.. واذا كنت اريد التأكيد على كل الجوانب فذاك ما يدخلني في طروحات طويلة لا مجال لها.. في بقعة الضوء والتي اردت ان اسلطها بتواضع على عمل اثار الاعجاب العميق العميق.. والذي ظل طيلة العرض منشدا بلا حدود بالغناء المذهل لـ(نيكار حسيب) حيث ساحت كالسحر لا عبر السمع وحده.. بل بمخاطبة القلب والروح.. بشدو فريد لم تجد له نظيرا الا في مبدعات الغناء الفريدات..  

 وهي تخرج مع ذاك الغناء.. تلونا.. في التعبير والاحساس فتضعك تارة في قمة الجبل تكاد تخاطب السماء العالية تستدر الرحمة.. وتنظر الى السهل تناشد البسالة والصلابة والصرامة النبيلة لان تحكي ما عندها..

 الله.. كم سعدت يوم شاهدت ذاك العرض لاشمخ بعراقيتي من خلال هذه الالفة الحميمة.. بين صوت من وطني جمع شماله وجنوبه فنا مذهلا وضم معه ذاك الاندماج في الحركة الصعبة والسهلة في آن.. ليندفع التعبير لغة تجاوزت حدود الكلمات لترسم صورة تحكي من خلال الانسان المبدع.. لغة ظلت في الذهن تتردد اعجاباً من كل المشاهدات والمشاهدين.. وظلت (نيكار) في الصورة لونا اخترق احاسيسنا عجبة واعجاب لا يوصف..!

 وعسى ان تكون بقعة الضوء هذه.. وفاء مني لعمرو نيكار واليس. وكل من شارك عن قرب أو بعد.. وآمل لهذه التجربة ان تتعمق وتتسع وان يكون لها المكان اللائق بها في عراقنا الحبيب.

في دائرة الضوء التي قرأناها في العدد الماضي.. كانت رؤية من خارج العرض المسرحي.. انها تعبير عن احساسنا بها واشارة لما تركته فينا عبر الفنان (شمال عمر) والفنانة (نيكار حسيب) وزميلتهما النمساوية (أليس).. ولكي يتم التعرف على طبيعة واسس هذا العمل بخصوصياته ومناهجه لابد لنا من ان ندخل اليه من خلال صانعيه وكيف ينظرون الى ما يقدمون ولماذا وكيف.. وان نتعرف في ذات الوقت على مختبرهم الذي انضجوا فيه رؤيتهم في مجال النظرية والاداء.
في البدء يؤكدون على اهمية الصوت عندهم.. انه كما يقولون: (قيمة الصوت في مختبر –لاليش- كأنه كائن حي وليس الهدف هو تحويل المنطوق المسموع وتوصيل معنا
معين بل بالعكس.. هو يتحدث عن نفسه ونحاول الوصول للأفعى الراكدة في اعماق جسدنا).

والصوت منبع ومحرك ودافع للجسد, والغناء ليس مجرد غناء.. بل هو (فعل!) بل هو احيانا يمثل الحدث بل هو الحدث ذاته.. فالصوت والغناء ليس تعميق النص الدرامي بل نحاول به تجاوز الاشكال القديمة..

والصوت لدينا ليس ماجرت عليه العادة في الاوبرا وتقنيات جديدة بل له تشغيل وتوظيف آخر.

ان الصوت مصدر اساسي يخلق صورته بنفسه.. نوعا من صور الغناء.. والغناء لدينا بطرق مختلفة وتنوعات كثيرة ونصوص ذاتية..

تقول (نيكار حسيب) البشر دائما يرون ما امامهم.. انا لا أرى ما هو خلفي ولكن اسمع الصوت في الفضاء.. هذه المسألة اهتم بها كثيرا وانا لا أترجم معنى الاغنية من خلال الاحساس ولا احاول ترجمة الحزن في الكلمات.. ولكن احس النغمات).

 احيانا ترسل (نيكار) اشارة خاصة بها –يقول (شمال عمر) لكن الجمهور يستقبلها بشكل مختلف.. وهي تختلف من شخص لآخر والمسرح كنشاط ابداعي انساني به مجال للتحول وبحث على ثلاث مستويات:

اولا- من خلال التمثيل ففي مختبرنا نتجه الى تحرير الممثل فيكون حرا في ادائه.

ثانيا- المسرح التجريبي المعاصر يتحول من خلال افراز دلالات اخرى من الكائن الفاعل الذيیصبح جزء من العملية الابداعية

ثالثا- التحول له دلالة اخرى وصلنا اليها.. التحول الذي يمارسه الكائن الحي من اجل ايجاد اقصى مستوى للطاقة ويتحول الى التمتع بالذات كاملة كأنسان ومن هنا تنهض هذا الفاعل ولايعرض اي شيء خارج ذاته.. وبالمقابل نريد ان يحقق المشاهد فعله الأنساني.

مختبرنا (لاليش) يحرك الاختيار الارادي.. ويعطي لي وانا (المخرج) كما يسمونني  –وانا اسمي نفسي-المراقب- يعطيني الحرية لكي اختفي ليس من خلال اشياء جميلة فقط بل حزينة ايضا.. اذ ليس هناك مجال للصمت ودائما هناك الذاكرة.

ان الفرق بين تجربة مختبر (لاليش) والمسرح الغربي تكمن في استخدام الاخير للجسد في الزمان والمكان.. انا لا ابالغ ولا اجبر نفسي في (العرض) بل اراعي ضرورة الاتصال بيني وبين الارض وانا لا امجد (الممثل) بل اريد ان اراه انسانا من خلال موقع معين وحالة تكنيكية كاملة.

وحوار بين اجزاء جسدي.. والنغم يجبرني جسديا على ان اتجاوب معه وهنا يكون الغناء عملا وفعلا لذا فانا احيانا اجلس واغني واعطي جسمي الحرية.. ان الصوت والغناء هما منبع الحركة.. اما عن مشاركة الجمهور في العمل فهي موجودة وحين قدمنا تجارب بغناء طويل ونغمات مختلفة ظل نصف الجمهور يردد تلك النغمات اكثر من عشر دقائق..

هذه رؤية موجزة لمختبر (لاليش) الذي تبنى العرض وقدم باستيعاب عميق من فنان مسرحي عراقي شاب.. (شمال عمر) وفنانة عراقية شابة (نيكار حسيب).. اما (أليس) وهي نمساوية فقد لخصت رؤيتها للمختبر واكدت على ان التدريبات الصوتية التي تعلمتها من (نيكار) تحاول من خلالها الرجوع الى الجذور العميقة في نفسها حتى تخرج هذه النغمات وتتحاور من كل المعوقات الجسدية والصوتية.

إنني في العمل احس كأنسان وطاقة كاملة, ليست هناك اوامر من الخارج لتحريكي بل احس دائما بأنني ارجع الى اصالتي بشيء من الطبيعية وحرية تحقيق الذات كفعل ارادي.. والعمل يعطيني يوميا ومع شمال ونيكار طاقات إنسانية كبيرة.. تلك هي تجربة (بداية الحديث) من الداخل احسسنا فيها كما اشرف سابقا عطر جبال العراق.. بصيغة تحمل الاحساس الانساني القادم من النمسا.

يوسف العاني
مخرج و ممثل و کاتب مسرحی عراقی
2005