الصوت یعید صیاغة العالم

بعد فترة من الصمت الطویل .. استغرقت المتلقی المسرحی فیها عوالم الرؤی البصریة، تنبهت جماعة لالیش المسرحیة لعنصر الصوت .. وتوجهت فی تجربة مغایرة لاتجاه البوصلة المعتادة .. نحو صیاغة مشهد مسرحی متعدد الأطیاف .. فإن شئت تواجدت فیه‌ فاغرا عینیک .. أو شئت دلفته‌ منصتا بجوارحک .. مستغرقا و مندهشا حیث اللغة تمس الوجدان ولا تحیطک بأطر اللغة التقلیدیة .. فأنت فی خضم موجات من الطاقة تحملک لعوالم أحیانا مد‌هشة و مبهرة، و أخری متباینة تثیر فیک مشاعر الغضب و الحنق .. ثم تحیلک مرات الی عالم طقسی یمس غرفا و أورقة ملأها غبار الإبهار البصری .. غرفا تحیطک بغلالات من منبع النشوة الصوفیة .. و إیقاعات الماضی السحیق .. ثم تهدأ بک علی شواطئ، تثیر فیک الرغبة فی اکتشافات لمواطن المعرفة، ربما نساها الزمن أو تنساها.

الجسد هنا یفرز أنواعا خاصة من الضوء تراه‌ بدواخلک. أحیانا ینعطف نحو البنی الساحق، ومرة نحو الارجوانی المفرح، وأخری نحو الأخضر المعتم، الجسد یتوالد فی کل شهیق و زفیر سواء وهو ساکن أو فی حرکاته‌ الافواعیة لقد رأیت جسدا ینمو و یتطاول، و أخری ینفجر و یتشظی میحلا مساحات القاعة الصماء الی أضواء تتکسر و تندمج فتسیطر علا فؤادک کلیة.

سینوجرافیا البولوفونیة للعرض

مساحة بیضاء وبکر، تطأها الأقدام لأول مرة، و کرسیان ضغیران أحدهما علی طرف تلک المساحة البیضاء و الآخر بعدها بقلیل، والأخیر یضفی علی الأول سمة من سمات التبجیل و التعاظم، الثلاثة یتبادلون خصائص عالم بدائی ربما تشعر أحیانا أنه‌ لا یمت للواقع الأرضی بصلة .. یتشکل علیها الصوت و ظلال المؤدین فی ثقة و شموخ وکذلک الجسد المعبأ بمعانی الفرح والالم، شموخ وثقة ینبعان من مساحة أرجوانیة أحیانا تستخدم کناقل صوتی فتهتز کالدماء المارة، إنها لغة نعرفها و ندرکها، تحتفل بالثورة أحیانا .. و أحینا یرتدیه‌ جسد المغنیة ذات الصوت العبقری فتضفی علیه‌ ألوانا من القوة الطاغیة .. والتحفز المثیر لکل الافعال المکتوبة.
لقد حظی العرض أو الفرقة "لالیش المسرحیة" بمیزة الاکتشاف و المثابرة علی اتمام الطریق فی اناة وثقة .. وربما غابت فی خضم عناصر التجربة و تفاصیلها الفنیة بعض الأمور التی یمکن أن تضفی علی التجربة تفردا حقیقیا، مثل استغلال التعددیة الصوتیة، و مصادر الطاقة المغایرة، وجود مؤدین یثیرون بأصواتهم، ظلالا أخری للصوت الأساسی، .. و ایضا ترجمة الأجزاء المتحرکة من العرض الی ألوان ضوئیة ربما اتاحت للصوت القدرة علی أن یکون ملموسا و مجسدا مما أعتقد أنه‌ یوفر للتجربة أبعادا تجعلها أمیل و أقدر علی خلق مجال فضائی مسرحی أکثر تأثیرا، فلا یجب أن ننسی أننا مع نوع من التجارب مازال یتعامل مع فئة من المشاهدین نالت قسطا من الخبرة .. وتدربت علی المشاهدة بما یکفی لجعلها قادرة علی فتح الابواب المغلقة، فربما لو أرهقت الفرقة نفسها فی إیجاد هذا النوع من الصیغ الدرامیة التی تساعد علی طرح الأسئلة لقضایا تهم الإنسان الحالی "روحیة و کونیة" لاتسعت مساحة التجریب، وساعدت الزهرة الجدیدة علی استنباط تنویعات اخری فی مجال ما بدأته‌، کما یمنح التجربة قدرة علی التأثیر علی أی نوع مختلف من أنواع المتلقی.
تحیة خاصة للفنان "شمال" و زوجته‌ جمیلة الصوت و الدخائل، رقیقة النفس و ثالثتهم صاحبة الشجاعة رفیعة المستوی، فلقد حظینا فی حضور طقسهم المسرحی بالمتعة النفسیة و الروحیة علی السواء، و خرجنا من المسرح غیر ما أتیناه .. وفی هذا ما یکفی.

د. إبراهیم الفو
فنان مسرحی مصری
عن "بدایة الحدیث" لمختبر لالیش المسرحی فی مهرجان القاهرة لمسرح التجریبی فی دورته‌ السابعة العشرة.
2005