مختبر (لاليش) المسرحي تجربة عراقية جديرة بالذكر والذكرى

احدى المهمات الاساسية التي تحققها التظاهرات الفنية الدولية هي ذلك التلاقح الجميل والمثمر للثقافات الانسانية المختلفة، وهو ايضا يتيح الفرصة امام المشاركين للتعريف بالانجازات الابداعية التي تمتطي صهوة التجريب المغامر والحداثة الباحثة، ومختبر (لاليش) المسرحي يمثل مجموعة واعية تهتم بالظاهرة المسرحية وتشتغل عليها من منظور جديد ومبتكر وقد اتاح مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي لكافة المشاركين والحضور مشاهدة العرض النمساوي (ارض الرماد والاغاني) (وهذا العرض هو مشروع بحث لعامي 2004-2005 في نسخ تجريبيه عديدة ويقدم مساحة لظهور الاشياء المرئية وغير المرئيه ويعين علامات لما ياتي من اعماق اجسادنا، وتعبر الفكرة الرئيسية للعرض عن ايجاد اساليب للتلاقي ورثاء الاروح المغمورة)، بهذه المقدمة يتحدث الفنان (شمال عمر) مؤسس هذا المختبر عن طبيعة العرض المسرحي الذي يقدمه والذي تساعده فيه زوجته الفنانة المبدعة نيكار حسيب، لنا مع هذا العرض الممتع والذي قدم في بيت تراثي قديم من بيوتات القاهرة وقفة متاملة، منطلقين من يقيننا بان التجريب لم يكن الا مغايرة للمالوف وابحاراً في عمق اللجة، انه تساؤل يحفز المخيلة ويلهب الاحاسيس، فتتدفق الصور بليغة وشاعرية، وحشية ومتوترة، ومرئية وصوتية، انه التجريب بحث واجتهاد وكسر للمعتاد، والتجريب في المسرح قد يتخذ من الفضاء وسيلة للبحث، فنرى عروضا اتخذت من الفضاءات المفتوحة والاماكن الاثرية والبيوتات المفتوحة التي تضوع بعمق الماضي حضنا لها، وقد يكون الاداء المسرحي متمثلا في الجسد وتعبيراته رقصا، ايحاء، اشارة، ونادراً مايعتمد العرض المسرحي الذي يمتطي صهوة التجريب منطقاً وتسلسلاً حكائياً، فالنص يخضع للالغاء او التفكيك او التشظي، انه التجريب على عناصر العرض المختلفة من سينوغرافيا، واداء، واحداث وتقنيات حديثة، او قد يكتفي المجرب المجتهد بالممثل المسلح بالمهارات الادائية داخل فضاء العرض المجرد الا من العلامة الاساسيه الممثل

 ومجموعة مختبر لاليش المسرحي، التي يقودها الثنائي العراقي (شمال عمر) و (نیكار حسيب) اتخذت من الصوت وسيلة للتجريب، فكان ان قدمت عرضها الذي اتسم بخصوصية بيئية ونماذج في الثقافات تظهر مدى التقارب والتناغم من خلال اربعة اصوات ثلاثة منها انثوية والرابع ذكري، ابتدأ العرض بصوت زغاريد عراقية وارتدت النسوة الثلاث العباءة العراقية، ودرن في فضاء المكان في بيت العود (الهواري) مثل حمائم مذعورة، لبسن ثوب الاحزان وتناوشتهن نداءات الغربة والفقدان، من رنه الفرح المنقوص بالخوف الى رنة الفرح المفجوع بالخسارة من ولادة الى عشق، من طفولة الى نضوج، ومن غناء واشتهاء الى رثاء وفقدان، ماالذي جمع انكيدو بكلكامش غير المحبة والبحث عن خلود الذات عبر الوطن، ماالذي جمع هؤلاء النسوة، سنغافورة، النمسا، العراق سوى مرارات الفجيعة وشذرات الفرح المسروق؟ طقس عراقي اتخذ من الصوت المحمل بالدلالة وسيلة للتعبير البصري، فالصوت هنا ليس هو ذلك (التون) الذي يحول المنطوق الى مسموع يترجم المشاعر والاحاسيس انه الصوت الذي يحيلنا عبر تنويعاته وتردداته وايقاعاته الى حالات شعورية وحركية، وتجسد لنا طقوساً ذات خصوصية بيئيه انه تمازج مثير للدهشة مابين الثقافات المختلفة، الا ان الحالات الشعوريه التعبيرية في الجسد والصوت، متقاربة كحالات انسانية في لحظات محددة في عمر ذلك الكائن المشحون بالتناقضات (الانسان).

استطاع الثنائي شمال عمر ونيكار حسيب ان يقدما لنا عرضا اكدا فيه ان للجسد والصوت قدراتهما في التعبير  من خلال العزف المتنوع على اوتار المشاعر الفرحة والحزينة والخائفة والمتمردة، الجهد الذي قدماه ومعهما الممثلتان الاخريتان اللتان لم تكونا اقل منهما براعة ودرية، اظهر لنا مدى جديتهما وبحثهما فيما اتخذاه مجالا للتدريب واقصد به الصوت الانساني في حالاته الشعورية المتعددة والتي عبرا عنها بواسطة الغناء، ولم يكن الغناء هنا لاجل تفعيل للمشهد الدرامي عبر الصورة الحركية والصوتية الغنية بالمشاعر المتدفقة وجدانياً يصل حد الصوفية والتجلي في لحظات الزخم العاطفي والتوحد الدراماتيكي، طقوس الرثاء والندب وطقوس الولادة والعشق والامومة، وطقوس الموت والفراق والخوف تحيلنا الى جذورها الام، انها تصل مابين وعينا اللحظوي داخل دهشة العرض المسرحي الساخن الذي لهثنا خلفة حد التعب وبين ذاكرتنا الجمعية فقد انثالث الصور الشعرية والصور الصوتية لهمسات واصوات وترنيمات كان لها وقعها الحالم والمتوحد داخل وجداننا، انها الطفولة والشباب واحلام الصبا لزمن في وطن مازال يشهد انكساراته والتياعات خساراته!! وحدت الطقوس الانسانية مابين الثقافات المختلفة فتمثلتها في عرض امتاز بالاجتهاد والتفرد لمجموعة جادة جاءت لتسهم في مهرجان تجريبي ضخم كمهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي في دورته السادسة عشرة ولتلقي بمنجزها بين التماعات التجارب العالمية، ولتعلن عن ولادتها ولاسلاح لديها سوى حبها وتصوفها وايمانها بالمسرح، رسالة اخلاقية وجمالية تسعى لتخفف وطأة الحياة وضراوتها تحت ظل هيمنة فكرية تحاول ان تلغي الانسان البشري، امام الهة الالفية الثالثة من الاسياد المتسلحين بسياط العولمة في جانبها المظلم
.

د.عواطف نعيم

ايلول/2005