کی لا ننسی الجذور

الصوت منبعا
مختبر لالیش المسرحی


لم یکن التجریب الا مغایرة للمألوف، و ابحارا فی عمق اللجة، انه‌ تساؤل یحفز المخیلة و یلهب الأحاسیس، فتتدفق الصور بلیغة و شاعریة، وحشیة، و متوترة، مرئیة و صوتیة، انه‌ التجریب، بحث و اجتهاد وکسر للمعتاد، و التجریب فی المسرح قد یتخذ من الفضاء وسیلة للبحث، فنری عروضا اتخذت من الفضاءات المفتوحة و الأماکن القدیمة حضنا لها، و قد یکون الأداء المسرحی متمثلا فی الجسد و تعبیراته‌ رقصا، ایحاء، اشارة، و نادرا ما یعتمد العرض المسرحی الذی یمتطی صهوة التجریب منطقا و تسلسلا حکائیا، فالنص قد یخضع للالغاء أو التفکیک أو التشظی، انه‌ التجریب علی عناصر العرض المختلفة من سینوغرافیا، و أداء، و أحداث، و تقنیات حدیثة، أو قد یکتفی المجرب المجتهد بالممثل المسلح بالمهارات الأدائیة داخل فضاء العرض المجرد الا من العلامة الأساسیة "الممثل"، و مجموعة "مختبر لالیش المسرحی: التی یقودها الثنائی العراقی (شمال عمر و نیگار حسیب) اتخذت من الصوت وسیلة للتجریب، فکان أن قدمت عرضها الذی اتسم بخصوصیة بیئیة و تمازج فی الثقافات یظهر مدی التقارب و التناغم من خلال أربعة أصوات، ثلاثة منها أنثویة و الرابع ذکری.

ابتدأ العرض بصوت زغارید عراقیة و أرتدت النسوة الثلاث العباءة العراقیة و درن فی فضاء المکان فی بیت العود الهراوی مثل حمائم مذعورة، لبست ثوب الأحزان و تناوشتها نداءات الغربة و الفقدان، من رنة الفرح المنقوص بالخوف، الی رنة الفرح المفجوع بالخسارة من ولادة الی عشق، من طفولة الی نضوج، و من غناء اشتهاء الی رثاء فقدان، ما الذی جمع أنکیدو بگلگامش غیر المحبة و البحث عن الخلود الذات عبر الوطن؟؟ ما الذی جمع هؤلاء النسوة، سنغافورة، النمسا، العراق، سوی مرارات الفجیعة و شذرات الفرح المسروق؟

طقس عراقی اتخذ من الصوت المحمل بالدلالة وسیلة للتعبیر البصری، فالصوت هنا لیس هو ذلـ‌ک النون الذی یحول المنطوق الی مسموع یترجم المشاعر و الأحاسیس، انه‌ الصوت الذی یحیلنا عبر تنویعاته‌ و تردداته‌ و ایقاعاته‌ الی حالات شعوریة و حرکیة، تجسد لنا طقوسا ذات خصوصیة بیئیة، انه‌ تمازج مثیر للدهشة ما بین الثقافات المختلفة، الا أن الحالات الشعوریة التعبیریة فی الجسد و الصوت، متقاربة کحالات انسانیة فی لحظات محددة فی عمر ذلک الکائن المشحون بالتناقضات ،"الانسان" .

استطاع الثنائی شمال عمر و نیگار حسیب أن یقدما لنا عرضا أکدا فیه‌ أن للجسد و الصوت قدراتهما فی التعبیر من خلال العزف المتنوع علی أوتار المشاعر الفرحة و الحزینة و الخائفة و المتمردة، الجهد الذی قدماه‌ و معهما الممثلتان الآخیرتان اللتان لم تکونا أقل منهما براعة و دریة، أظهر لنا مدی جدیتهما و بحثهما فیما اتخذاه‌ مجالا لتدریب و أقصد به‌ الصوت الانسانی فی حالاته‌ الشعوریة المتعددة و التی عبرا عنها بواسطة الغناء، ولم یکن الغناء هنا لأجل التطریب أو التنغیم بل هو تفعیل للمشهد الدرامی عبر الصورة الحرکیة و الصوتیة الغنیة بالمشاعر المتدفقة وجدانیا یصل حد الصوفیة والتجل فی لحظات الزخم العاطفی و التوحد الدراماتیکی، طقوس الرثاء و الندب و طقوس الولادة و العشق و الأمومة، و طقوس الموت و الفراق و الخوف تحیلنا الی جذورها الأم. انها تصل ما بین وعینا اللحظوی داخل دهشة العرض المسرحی الساخن الذی لهثتنا خلفه‌ حد التعب و بین ذاکرتنا الجمعیة، فقد انثالت الصور الشعڕیة و الصور الصوتیة لهمسات وأصوات وترنیمات کان لها وقعها الحالم و لامتوحد داخل وجداننا.
انها الطفولة و الشباب و أحلام الصبا لزمن فی وطن مازال یشهد انکساراته‌ و التباعات خساراته‌! وحدت الطقوس الانسانیة ما بین الثقافات المختلفة فتمثلتها فی عرض امتاز بالاجتهاد و التفرد لمجموعة جادة جاءت لتسهم فی مهرجان تجریبی ضخم کمهرجان القاهرة الدولی للمسرح التجریبی فی دورته‌ السادسةعشرة، و لتلقی بمنجزها بین التماعات التجارب العالمێة، و لتلعن عن ولادتها ولا سلاح لدیها سوی حبها و تصوفها و ایمانها بالمسرح رسالة اخلاقیة وجمالیة تسعی لتخفف من وطأة الحیاة وضراوتها تحت ظل هیمنة فکریة تحاول أن تلغی الانسان البشری، أمام آلهة الألفیة الثالثة من الأسیاد المتسلحین بسیاط العولمة فی جانبها المظلم.

د. عواطف نعیم
ممثلة و مخرجة و باحثة مسرحیة عراقیة
عن العرض "أرض الرماد و الأغانی" لمختبر لالیش المسرحی فی مهرجان القاهرة لمسرح التجریبی فی دورته‌ السادسة العشرة.

2004