مسرح لالش.. الصوت بوصفه منبعا ومحركا للجسد
في فيينّا أسس المخرج المسرحي العراقي شمال عمر ، مع زوجته الممثلة نيكار حسيب قره داغي ، عام 1998 ، فرقة مسرح (لالش) ، بوصفها مركزأً للبحث المسرحي ، ولثقافة الكفاءة المسرحية. ويعني اسم ( لالش) (الحياة المنوّرة) ، وهو مأخوذ عن اسم كردي قديم يشير إلى معبد للديانة اليزيدية. وجاءت هذه الفرقة ، التي تُعدّ من أهم التجمعات المسرحية الكردية في أوروبا ، في أعقاب فرقة المسرح التجريبي الكردي التي أسسها شمال ونيكار عام 1992 ، بعد وصولهما مباشرةً إلى النمسا ، وقدّما من خلالها عروضاً عديدة في المدن النمساوية ، وفي ألمانيا وهولندا والدنمارك وسويسرا وبريطانيا ، حيث توجد هناك جالية كردية كبيرة
وتولدت فكرة تأسيس فرقة مسرح (لالش) بعد أن اكتسب مؤسساها خبرةً من تجاربهما المسرحية ، واحتكاكهما بالتجارب المسرحية الأوروبية ، وهي فرقة عالمية تتألف من فنانين ينتمون إلى ثقافات ومجتمعات متعددة كالكرد والعرب والألمان والنمساويين والفرنسيين وغيرهم ، وعرضت تجاربها المسرحية في عدد من مسارح العالم ، مثل مسرح (دوم بيير) الفرنسي ، و(غوت هارد) السويسري ، وبرلين الألماني ، وإكوهاما الياباني. أما في النمسا فإن أكثر نشاطات الفرقة تتركز في مجال تفاعل الحضارات (التواصل الثقافي) ، إذ قدمت (ملحمة كلكامش) برؤية جديدة ومغايرة للمسرح التقليدي ، وعرضاً مسرحياً ينتمي إلى المسرح "الأدائي" الصامت ، الذي تتخلله عبارات من لغات مختلفة وأشعار صوفيه ، إضافةً إلى تجارب مسرحية مشتركة مع مؤسسات نمساوية وأوروبية ، لها وزنها وأهميتها ، مثل: جامعة فيينا ، وجامعة كريمس ، ومركز الدراسات العلمية ، ومعهد علم المسرح والأفلام والإعلام ، ومختبر باراته ، وغيرها من المؤسسات.
كما قامت نيكار وشمال بتأسيس مختبر مسرحي لتأهيل المشاركين في الفرقة وطلبة المسرح من خلال تمرينات تشمل الصوت والإلقاء وحركات الجسد. وهما يفضلان مفهوم (الكفاءة المسرحية) على مفهوم (العرض المسرحي) على أساس أن المسرح عملية خلق وتواصل مع البشر ، ولهذا التواصل صيغ واتجاهات مختلفة ، ومن هنا فهما لا يسعيان إلى تمثيل الآخر ، أو الشخصيات المكتوبة مسبقأ بقدر ما يحاولان تحقيق الذات والذاكرة الفردية والجمعية ، ويستعملان صيغة (المحتفل) بدلاً من (الممثل). وبذلك يلتقيان مع الصيغة التي يعمل بها المسرح الاحتفالي في المغرب ، سواء أقصدا ذلك أم لم يقصدا ، ولكنهما يختلفان عن تلك الصيغة في توكيدهما على قيمة الصوت وأهميته ، بوصفه منبعاً ومحركاً ودافعاً للجسد ، وكذلك على الغناء ، بوصفه حدثاً درامياً ، يضفيان عليها تقنيات وأساليب تشغيل عديدة ، "صحيح ان الحدث الفيزيقي يخلق الإيقاع والحدث ، لكن الغناء هنا ليس مجرد غناء ، بل تعبير مرئي ، وليس مفسراً للحدث ، بل هو الحدث نفسه ، وهو لا يخلق الأجواء ، إنما هو الأجواء ذاتها" ، ولذا فإنه محاولة اخرى للبحث الجسدي ، ولكن عبر الصوت.
وفي هذا الصدد يقول شمال ونيكار"إننا عبر هذه الطريقة نحاول الوصول الى أسرار تلك الأفعال الملتوية ، شبه النائمة في أعماقنا ، أي في اعماق جسدنا ، فحين تتحرك نتحرك نحن أيضاً ، وحين تتنفس نتنفس نحن أيضاً. إنها بمثابة صورة حية لقوة الحياة"
ويبدو من خلال توكيدهما على قيمة الصوت أنهما قد ابتعدا عن مؤثرات مسرح الصورة الذي كان له حضور طاغ عليهما في ثمانينات القرن الماضي بفعل عملهما مع استاذهما المخرج صلاح القصب في كلية الفنون الجميلة ، وقد جاء عرضهما (أرض الرماد والأغاني) ، الذي قدماه في مهرجان القاهرة التجريبي عام 2004 ، تطبيقاً لهذا المنهج ، وهو ، حسب وصف الدكتور ميمون الخالدي له ، عرض مختبري (أدته ممثلتان ، احداهما نمساوية والأخرى سنغافورية من أصل صيني) يقوم على بنية صوتية مطلقة ، تشكلت أنساقها من نغمات مختلفة تحكمها مرجعيات اجتماعية وانثولوجية متعددة ، دون أن تربطها "نصية" مسبقة وواضحة ، بحيث اختلط فيها الارتجال آنياً مع الإرسالية المقصودة لتتابع الغناء حيناً وللنغمات ومساراتها اللحنية حيناً آخر.
بدأ الهاجس التجريبي لدى شمال عمر ونيكار حسيب منذ أيام الدراسة الجامعية ، وقد شاهدت لهما في منتصف الثمانينات تجربةً مثيرةً مع نص بيكيت (في انتظار غودو) استبدل فيها شمال عمر ، مخرجاً ، شخصيتي (فلادمير) و(استراجون) الرجاليتين بشخصيتين نسائيتين ، مثلتهما نيكار حسيب وفرميسك مصطفى. وكتبت في حينها مقالاً نقدياً عن التجربة أشرت فيه إلى أن رؤية المخرج توحي بأن الكائن الإنساني عامةً ، وليس الرجل فقط كما في نص بيكيت ، يعاني من عبث الحروب ، ويشعر باللاجدوى. ويبدو لي الآن أن تلك التجربة لو قُرأت من منظور النقد النسوي لتوصلت القراءة إلى استنتاجات ودلالات مهمة.
ثم شاهدت تجربة أخرى عام 1987 في السليمانية أخرجتها ومثلتها نيكار حسيب وميديا رؤوف هي (في انتظار سيامند) في غرفة صغيرة يتكون فضاء العرض في وسطها من مرتفع خشبي مستطيل له ذراعان كالصليب ، مغطى بشاشة من قماش شفاف تتحول تارةً إلى كفن ، وأخرى إلى غطاء ، وثالثة إلى شراع لسفينة تائهة ، وإلى غير ذلك من المدلولات الحسية التي تستحضر الممثلتان من خلالها الرمز الغائب: سيامند الرجل ، الحبيب ، الأمل ، المنقذ ، الحلم ، الوطن...الخ ، بأداء جسدي شفاف ، وشاعري. وكانت تلك التجربة واحدةً من التجارب العديدة التي شهدها المسرح العراقي في الثمانينات في سياق رمزي يقارب موضوعة الانتظار الموجع ، والآمال الخائبة ، والبحث عن المنقذ والمخلًص ، منها: (ترنيمة الكرسي الهزاز ، وتساؤلات مسرحية) ، لعوني كرومي ، و(مرحباً أيتها الطمأنينة) لعزيز خيون.
عواد علی
ناقد و روائي عراقي
Date : 06-11-2009
رقم العدد14907 السبت 26 ذو القعدة 1430هـ الموافق 14 تشرين الثاني 2009